الرّسم والشّعـر
La Poésie Et Le Dessin
وصلت إلى قاعة العرض في المركز الثقافي الفرنسي متأخرا بسبب المواصلات. القاعة تغص بالزوار. رأيتها من بعيد محاطة ببعض موظفي السفارة الفرنسية، ووزارة الثقافة الجزائرية، والفنانين والأساتذة الفرنسيين والجزائريين. لم أتصور أن أحظى بمحادثتها. بدأت أتأملها بعينين تفيضان بالإعجاب. كانت تلبس ثوبا أرجوانيا لا يكاد يصل إلى ركبتيها، ويظهر تناسق جسدها مع قامتها المعتدلة المائلة إلى الطول. وتبرز من خلاله ذراعاها البضتان الناصعتا البياض والجزء الأعلى من صدرها، بينما توهج شعرها الذهبي تحت الأضواء منسدلا على ظهرها شبه العاري. وتلألأ العقد الماسي الذي يزين نحرها متناسبا مع لألاء أسنانها وبريق إبتسامتها المشرقة، ومع لمعة السوار في يدها اليسرى وأزرار الثوب الماسية، مما جعلها نجمة وهاجة تدور في فلكها جموع الحاضرين رجالا ونساء. الفنانون المشاركون أربعة اختلفت لوحاتهم باختلاف مذاهبهم الفنية. وهي تدور بينهم برشاقة بحذائها الأحمر ذي الكعب العالي المدبب المنسجم مع الثوب، تشرح لوحاتها للجمهور، وتستمع إلى آرائهم وتعليقاتهم. أتمت جانين شرح لوحاتها وانتقلت مع الجمهور إلى لوحات الفنانين الآخرين.
لم أجد في نفسي رغبة لفهم اللوحات الفنية كما أجدها الآن. ولكنني أمِّيٌّ في هذا المجال، لأنني لم أكن أهتم بالرسم ولا أتذوقه. كيف أقرأ اللوحات وأنا لا أعرف لغتها؟ وقفت أمام لوحات جانين حسب الأرقام الموجودة معي في الدليل فوجدت رجلا يشرح لزوجته اللوحة الأولى. كانت تحمل اسم"مشهد طبيعي من الجورا". أوضح لها بأن الجورا هي المنطقة التي توجد فيها بيزانسون موطن الفنانة. رُسِمَ المشهد في الخريف فالأشجار شبه عارية، والسماء مغطاة بالغيوم. أضاف بأن اللوحة ليست كلاسيكية مئة بالمئة بل فيها ملامح رومانسية، لأنها تعكس بألوانها الداكنة نفسية الفنانة الكئيبة حين رسمتها.
بدأت أغار. لو أنني أرسم لكانت بيني وبين جانين لغة مشتركة كهؤلاء الرسامين الذين يحيطون بها، فالرسم لغة عالمية، أما الشعر فأنا أكتبه باللغة العربية التي لا تفهمها جانين. كلنا في بوسعادة وفي الجنوب عموما شعراء، نستقي من مخزون الشعر حولنا وفي داخلنا. تعلمنا لغة العروض، ولو أننا درسنا لغة الأشكال والألوان، لعكسنا جمال طبيعتنا في أبدع اللوحات. كانت اللوحة الثانية تعبيرية، تمثل راقصة باليه وهي في أوج انفعالها، وقد أظهرت تعبيرات الوجه والجسد حالة الوجد التي بلغت الراقصة ذروتها. أما الثالثة فتكعيبية، وهي عبارة عن مكعبات ملتصقة بشكل مدهش، تكون صورة الرسامة. وتبدو حين ترى عن بعد ثلاثية الأبعاد، فيها بساطة ورشاقة وجمال. ما زال الفنان يشرح لزوجته وأنا أستمع وأتعلم. اللوحتان الرابعة والخامسة تجريديتان. أولاهما تمثل عينين ناطقتين بالأسى والشجن في وسط اللوحة البيضاء واسمها "معاناة". والثانية ليس فيها شكل، بل ألوان: الأزرق والأبيض والأحمر والأخضر والبنفسجي تحدث تناغما بديعا مريحا للنفس. أما اللوحة الأخيرة فهي اللوحة السياسية الوحيدة أو لنقل الإنسانية. نصفها الأيمن مرسوم بالزيت، يمثل طفلا أبيض مليئا بالحيوية والصحة يقضم تفاحة حمراء، ووراءه قصر فخم أبيض، والطبيعة حافلة بالخضرة والزهور مختلفة الألوان. والنصف الثاني مرسوم بالفحم يمثل طفلا أسود مهزولا بارز العظام والقفص الصدري، ووراءه كوخ صغير إفريقي وأرض جرداء. عنوان اللوحة "طفلان وقارتان".
عبد الله خمّار
من رواية "جرس الدّخول إلى الحصّة"